كتاب : كتاب أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة
المؤلف : نخبة من العلماء

ومن كرامات الأولياء من هذه الأمة ما ثبت في حق أسيد بن حضير رضي الله عنه أنه كان يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته . وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين رضي الله عنه . وكان سلمان وأبو الدرداء رضي الله عنهما يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها . وخبيب بن عدي رضي الله عنه كان أسيرا عند المشركَين بمكة شرفها الله تعالى وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة .
ومر العلاء الحضرمي رضي الله عنه بجيشه فوق البحر على خيولهم فما ابتلت سروج خيولهم . ووقع أبو مسلم الخولاني رحمه الله في أسر الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : ما أسمع . قال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه يصلي فيها وقد صارت بردا وسلاما ، وغير ذلك كثير مما هو منقول في كتب السير والتاريخ .
الفرق بين المعجزة والكرامة :

الفرق بين المعجزة والكرامة : أن المعجزة تكون مقرونة بدعوى النبوة . بخلاف الكرامة فإن صاحبها لا يدعي النبوة وإنما حصلت له الكرامة باتباعَ النبي والاستقامة على شرعه . فالمعجزة للنبي والكرامة للولي . وجماعهما الأمر الخارق للعادة .
وذهب بعض الأئمة من العلماء : إلى أن كرامات الأولياء في الحقيقة تدخل في معجزات الأنبياء لأن الكرامات إنما حصلت للولي باتباع الرسول ، فكل كرامة لولي هي من معجزات رسوله الذي يعبد الله بشرعه .
ومن هذا يتبين أن إطلاق المعجزة على خوارق الأنبياء والكرامة على خوارق الأولياء معنيان اصطلاحيان ليسا موجودين في الكتاب والسنة وإنما اصطلح عليهما العلماء فيما بعد وإن كانا في مدلولهما يرجعان إلى ما تقرر في النصوص من الحق .
حكم الإيمان بالمعجزات والكرامات :
الإيمان بمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء أصل من أصول الإيمان دلت عليه نصوص الكتاب والسنة والواقع المشاهد فيجب على المسلم اعتقاد صحة ذلك وأنه حق . وإلا فالتكذيب بذلك أو إنكار شيء منه رد للنصوص ومصادمة للواقع وانحراف كبير عما كان عليه أئمة الدين وعلماء المسلمين في هذا الباب . والله تعالى أعلم .

المبحث الحادي عشر
الولي والولاية في الإسلام
تعريف الولي والولاية :
الولاية : ضد العداوة . وأصل الولاية : المحبة والقَرب . وأصل العداوة : البغض والبعد .
والولاية في الاصطلاح : هي القرب من الله بطاعته .
والولي في الشرع : هو من اجتمع فيه وصفان : الإيمان والتقوى . قال تعالى : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }{ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } (يونس : 62 ، 63) .
تفاضل الأولياء :
وإذا كان أولياء الله هم المؤمنون المتقون فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى فمن كان أكمل إيمانا وتقوى كان أكمل ولاية لله . فالناس يتفاضلون في ولاية الله بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى .
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه ، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم ، وأفضل المرسلين أولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأفضل أولي العزم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم - على ما تقدم ذلك في موضعه - ثم إبراهيم عليه السلام . ثم اختلف الناس في المفاضلة بين الثلاثة الباقين .
أقسام أولياء الله :
وأولياء الله على قسمين :

القسم الأول : سابقون مقربون .
القسم الثاني : أصحاب يمين مقتصدون .
وقد ذكرهم الله تعالى في عدة مواضع من كتابه . قال تعالى : { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ }{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ }{ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ }{ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا }{ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا }{ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا }{ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً }{ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ }{ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ }{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }{ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ }{ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } (الواقعة : 1- 12) .

فذكر ثلاثة أصناف . صنفا في النار وهم أصحاب الشمال وصنفين في الجنة وهما : أصحاب يمين وسابقون مقربون . وقد ذكرهما أيضا في آخر هذه السورة وهي سورة الواقعة فقال : { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ }{ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ }{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ }{ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } (الواقعة : 88- 91) . وقد ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم عمل القسمين في حديث الأولياء المشهور وهو حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه وقد أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذيَ يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه » (1) . فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه تعالى بالفرائض ، يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم ، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات ولا
_________
(1) صحيح البخاري برقم (6502) .

الكف عن فضول المباحات . وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه تعالى بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات فلما تقربوا إلى الله بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبا تاما وعصمهم من الذنوب واستجاب دعاءهم كما قال تعالى : « ولا يزال عبديَ يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه » . . ) إلى آخر ما ذكر في الحديث .
لا يختص أولياء الله بلباس ولا هيئة :
وأولياء الله لا يتميزون عن غيرهم من الناس في الظاهر بلباس ولا بهيئة على ما هو مقرر عند أهل العلم والتحقيق من أهل السنة .
قال بعض الأئمة المصنفين في الأولياء : (وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات ، فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان مباحا ، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ضفره إذا كان مباحا . كما قيل كم من صديق في قباء ، وكم من زنديق في عباء ، بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور ، فيوجدون في أهل القرآن ، وأهل العلم ، يوجدون في أهل الجهاد والسيف ، ويوجدون في التجارة والصناع والزراع) .

بطلان ما قد يعتقد فيهم من الغلو :
وأولياء الله ليسوا معصومين ولا يعلمون الغيب وليس لهم قدرة على التصرف في الخلق والرزق ولا يدعون الناس إلى تعظيمهم أو صرف شيء من الأموال والعطايا لهم ومن فعل ذلك فليس بولي لله بل كذاب أفاك ولي للشيطان . والله تعالى أعلم .

الفصل الرابع:
الإيمان باليوم الآخر
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : أشراط الساعة وأنواعها .
المبحث الثاني : نعيم القبر وعذابه . وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : الإيمان بنعيم القبر وعذابه وأدلة ذلك .
المطلب الثاني : وقوعه على الروح والجسد معا .
المطلب الثالث : الإيمان بالملكين منكر ونكير .
المبحث الثالث : الإيمان بالبعث . وفيه مطالب :
المطلب الأول : معنى البعث وحقيقته .
المطلب الثاني : أدلة البعث من الكتاب والسنة والنظر .
المطلب الثالث : الحوض صفته وأدلته .
المطلب الرابع : الميزان صفته وأدلته .
المطلب الخامس : الشفاعة تعريفها وأنواعها وأدلتها .
المطلب السادس : الصراط صفته وأدلته .
المطلب السابع : الجنة والنار صفتهما وكيفية الإيمان بهما وأدلة ذلك .
المبحث الأول
أشراط الساعة وأنواعها
تعريف أشراط الساعة :
الأشراط : جمع شرط وهو : العلامة . وقيل أشراط الشيء : أوائله .
جاء في لسان العرب : والاشتقاقان متقاربان لأن علامة الشيء أوله .

والساعة : جزء من أجزاء الزمن ، ويعبر به عن القيامة . قال تعالى : { وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } (الزخرف : 85) . والساعة من أشهر أسماء يوم القيامة في النصوص الشرعية وكلام الناس ، وسمي ذلك اليوم بالساعة : لأنه يأتي بغتة فيفاجأ الناس في ساعة .
وأشراط الساعة : علاماتها وأماراتها التي تقع قبل قيامها . قال تعالى : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } (محمد : 18) .
أقسام أشراط الساعة :
أشراط الساعة وأماراتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : الأمارات البعيدة : وهي التي ظهرت وانقضت .
منها بعثة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم على ما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « بعثت أنا والساعة كهاتين . وضم السبابة والوسطى » (1) .
ومنها انشقاق القمر على ما أخبر الله في كتابه ، قال تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } (القمر : 1) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (6504) ، وصحيح مسلم برقم (2951) .

ومنها خروج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى على ما أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى » (1) . وقد خرجت هذه النار على ما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة وكان خروجها من شرقي المدينة النبوية وسالت بسببها أودية من نار وارتاع الناس منها ورأى ضوءها أهل الشام ورأى أهل بصرى - وهي إحدى قرى دمشق- ، أعناق الإبل في ضوئها كما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم .
القسم الثاني : الأمارات المتوسطة : وهي التي ظهرت ولم تنقض بل تتزايد وتكثر وهي كثيرة جدا .
منها أن تلد الأمة ربتها (2) وتطاول الحفاة العراة رعاء الشاء في البنيان على ما جاء في حديث جبريل المشهور الذي أخرجه مسلم وقد تقدم في الفصل الأول من هذا الباب وفيه : « قال فأخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرني عن أماراتها ، قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان » (3) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7118) ، وصحيح مسلم برقم (2902) .
(2) أن تلد الأمة ربتها ، الأمة المرأة المملوكة ، وولدها من سيدها بمنزلة سيدها ، لأن مال الإنسان صائر لولده .
(3) صحيح مسلم برقم (8) .

ومنها خروج دجالين ثلاثين يدعون النبوة كما جاء في حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله » (1) . وفي سنن أبي داود والترمذي من حديث ثوبان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي » (2) .
ومنها انحسار الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه على ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه ، فيقتل من كل مائة تسعة تسعون ويقول كل رجل منهم لعلي أكون أنا الذي أنجو » (3) وهذه العلامة لم تقع بعد .
_________
(1) رواه البخاري برقم (3609) .
(2) سنن أبي داود برقم (4252) ، وسنن الترمذي برقم (2219 ، وقال الترمذي : « هذا حديث حسن صحيح ».
(3) رواه مسلم في الصحيح برقم (2894) ، وبنحوه البخاري برقم (7119) وأحمد في المسند 2 / 261 .

القسم الثالث : العلامات الكبرى : وهي التي تعقبها الساعة إذا ظهرت . وهي عشر علامات ولم يظهر منها شيء . روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن أسيد قال : « اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر ، فقال : ما تذاكرون ؟ قالوا : نذكر الساعة . قال : إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : فذكر الدخان والدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم » (1) . وجاء في بعض الأحاديث الأخرى ذكر المهدي ، وهدم الكعبة ، ورفع القرآن من الأرض على ما سيأتي ذكر الأحاديث في ذلك .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2901) .

والذي عليه أكثر المحققين من أهل العلم أن العلامات العشر العظمى هي هذه الثلاث وما ذكر في حديث حذيفة بن أسيد سوى الخسوف فإنها وإن كانت من علامات الساعة بلا شك كما هو نص الحديث إلا أنها تقع قبل العشر العظمى ، وهي مقدمة لها ، ويشهد لهذا ما جاء في رواية أخرى من حديث حذيفة بن أسيد وقد خرجها مسلم أيضا وفيها تقديم الخسوف في الذكر على غيرها من العلامات حيث قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال » . . ) (1) ثم ذكر بقية العلامات . قال القرطبي : (فأول الآيات على ما في هذه الرواية الخسوفات الثلاثة وقد وقع بعضها في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ذكره ابن وهب . . . ) . وفيما يلي عرض لهذه العلامات العشر مفصلة بأدلتها :
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2901) .

العلامة الأولى : خروج المهدي : وهو رجل من أهل البيت من ولد الحسن بن علي رضي الله عنهما يخرج وقد ملئت الأرض جورا وظلما فيملؤها قسطا وعدلا يوافق اسمه اسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم واسم أبيه اسم أب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم على ما روى أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما » (1) .
_________
(1) سنن أبي داود 4 / 306 برقم (4282) ، واللفظ له ، وسنن الترمذي 4 / 505 برقم (2230) ، وقال الترمذي حديث حسن صحيح .

العلامة الثانية : ظهور المسيح الدجال : وهو رجل من بني آدم يخرج في آخر الزمان فيفتن به كثير من الخلق ، يجري الله على يديه بعض الأعمال الخارقة ، ويدعي الربوبية ولا يروج باطله على المؤمن ويدخل الأمصار كلها إلا مكة والمدينة ، ومعه نار وجنة فناره جنة وجنته نار . وقد دلت الأحاديث الصحيحة على خروجه ، منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أخرجه مسلم في صحيحه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه » . . . ) (1) الحديث . وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال : « إني أنذركموه وما من نبي إلا قد أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور ، وأن الله ليس بأعور » (2) .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2940) .
(2) صحيح البخاري برقم (3057) ، وصحيح مسلم برقم (169) ، واللفظ للبخاري .

العلامة الثالثة : نزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء إلى الأرض حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقضي على الدجال كما دلت على ذلك النصوص من الكتاب والسنة . أما الكتاب فيقول الله تعالى : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } (الزخرف : 61) ، وقد استدل بهذه الآية على نزول عيسى كثير من المفسرين وينقل هذا عن ابن عباس على ما أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية قال : « هو خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة » (1) . كما دلت على نزول عيسى عليه السلام الأحاديث الصحيحة : ففيِ الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها » (2) .
_________
(1) المسند : 1 / 318 .
(2) صحيح البخاري برقم (2222) ، وصحيح مسلم برقم (155) ، واللفظ لمسلم .

العلامة الرابعة : خروج يأجوج ومأجوج : وهم خلق كثير لا يدين لأحد بقتالهم قيل إنهم من ولد يافث من ولد نوح عليه السلام وقد دل على خروجهم الكتاب والسنة . قال تعالى : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ }{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (الأنبياء : 96 ، 97) . وأخرج الشيخان عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم دخل عليها يوما فزعا يقول : « لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها » . . " ) (1) الحديث .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3346) ، وصحيح مسلم برقم (2880).

العلامة الخامسة : هدم الكعبة وسلب حليها على يد ذي السويقتين من الحبشة كما صحت بذلك السنة . فقد أخرج الشيِخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة » (1) . وروى الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم يقول : « يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ، ويسلبها حليها ويجردها من كسوتها ، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله » (2) .
العلامة السادسة : الدخان : وهو انبعاث دخان عظيم من السماء يغشى الناس ويعمهم ، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة . قال تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ }{ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } (الدخان : 10 ، 11) . ومن السنة حديث حذيفة بن أسيد المتقدم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة » (3) الحديث .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (1591) ، وصحيح مسلم برقم (2909) .
(2) المسند : 2 / 220 .
(3) صحيح مسلم برقم (2901) .

العلامة السابعة : رفع القرآن من الأرض إلى السماء فلا يبقى منه آية في سطر ولا صدر إلا رفعت . وقد دلت على ذلك السنة فقد أخرج ابن ماجه والحاكم من حديث حذيفة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية » . . . ) (1) .
_________
(1) سنن ابن ماجه 2 / 1344 ، برقم (4049) ، والمستدرك للحاكم 4 / 473 وقال : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي .

العلامة الثامنة : طلوع الشمس من مغربها . وقد دلت على هذه الآية النصوص من الكتاب والسنة . قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } (الأنعام : 158) . فقد ذهب جمع من المفسرين إلى أن بعض آيات ربك ، هي طلوع الشمس من مغربها . قال الطبري بعد ذكره أقوال المفسرين في الآية : (وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال ذلك حين تطلع الشمس من مغربها) (1) ، وروى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون فذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » (2) .
_________
(1) تفسير ابن جرير ج8 / 97 .
(2) صحيح البخاري برقم (4636) ، وصحيح مسلم برقم (157) .

العلامة التاسعة : خروج الدابة : وهي مخلوق عظيم قيل إن طولها ستون ذراعًا ذات قوائم ووبر ، وقيل هي مختلفة الخلقة تشبه عدة من الحيوانات وقد دل الكتاب والسنة على خروجها قبل قيام الساعة . قال تعالى : { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ } (النمل : 82) . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ، طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض) (1) . وأخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم ثم يغمرون فيكم حتى يشتري الرجل البعير فيقول ممن اشتريته فيقول : من أحد المخطمين » (2) وقد صحح سند الحديث الهيثمي وغيره من المحدثين .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (158) .
(2) المسند : 5 / 268 .

العلامة العاشرة : خروج نار عظيمة تخرج من عدن تحشر الناس إلى محشرهم وهي آخر العلامات العظام . وقد دلت على هذه العلامة السنة كما جاء في حديث حذيفة بن أسيد المتقدم والذي أخرجه مسلم وفيه : « وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم » (1) . وفي رواية من حديث حذيفة « ونار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس » .
فهذه الأمارات أعظم أشراط الساعة التي تقع قبل قيامها فإذا انقضت قامت الساعة بإذن الله تعالى وقد ورد أن هذه الأمارات متتابعة كتتابع الخرز في النظام فإذا ظهرت إحداها تبعتها الأخرى . روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « خروج الآيات بعضها على إثر بعض ، يتتابعن كما تتابع الخرز في النظام » (2) .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2901) .
(2) المعجم الوسيط : 5 / 148 ، برقم (4283) .

المبحث الثاني
نعيم القبر وعذابه
وبحث هذا الموضوع يتم من خلال ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : الإيمان بنعيم القبر وعذابه وأدلة ذلك :
الإيمان بنعيم القبر لأهل الطاعة وبعذاب القبر لمن كان مستحقا له من أهل المعصية والفجور من أصول الإيمان التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة .

فمن أدلة الكتاب على نعيم القبر قول الله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } (إبراهيم : 27) ، فدلت الآية على تثبيت الله تعالى للمؤمنين عند السؤال في القبر وما يتبع ذلك من النعيم . أخرج البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ }» (1) . ودليل عذاب القبر من القرآن قول الله تعالى : { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ }{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } (غافر : 45 ، 46) ، قال القرطبي : (الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ وهو حجة في تثبيت عذاب القبر) . وقال الحافظ ابن كثير : (وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور) (2) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (1369) .
(2) تفسير ابن كثير ح7 / 136 .

كما دل على عذاب القبر من القرآن أيضا قوله تعالى : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } (التوبة : 101) ، فقد استدل بها كثير من السلف على عذاب القبر ، فعن مجاهد أنه قال في تفسير الآية : (بالجوع وعذاب القبر ، قال : " ثم يردون إلى عذاب عظيم " يوم القيامة) . وعن قتادة قال : (عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، وقد استدل بهذه الآية والتي قبلها على عذاب القبر الإمام البخاري في ترجمته للأحاديث في عذاب القبر (1) .
_________
(1) صحيح البخاري باب ما جاء في عذاب القبر ، فتح الباري (3 / 231) .

وأما ما جاء في السنة من الأدلة على نعيم القبر وعذابه فكثير جدا من ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة » (1) . وفي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر » (2) . والأدلة على هذا كثيرة من الكتاب والسنة وقد ذكرت ما يستدل به في إثبات عذاب القبر ونعيمه ، والله أعلم .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (1379) ، وصحيح مسلم برقم (2866) .
(2) صحيح مسلم برقم (2868) .

المطلب الثاني : وقوع نعيم القبر وعذابه على الروح والجسد معا :
نعيم القبر وعذابه يكون للروح والبدن جميعا ، فتنعم الروح أو تعذب متصلة بالبدن فيكون النعيم والعذاب عليهما جميعا كما أنه قد تنعم الروح أو تعذب أحيانا منفصلة عن البدن ، فيكون النعيم أو العذاب للروح منفردا عن البدن . وقد دلت على هذا النصوص وعليه اتفق أهل السنة والجماعة ، خلافا لمن زعم أن عذاب القبر ونعيمه يكون للروح فقط على كل حال ولا يتعلق بالبدن .
فمن الأدلة على ذلك حديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ( لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم) فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا . وأما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين » (1) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (1338) .

وفي حديث البراء بن عازب الطويل الذي أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وغيرهم مرفوعا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال بعد أن ذكر خروج الروح وصعود روح المؤمن إلى السماء : « فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك » (1) الحديث ، وقد صحح هذا الحديث الحاكم وغيره .
فدل الحديثان على وقوع النعيم أو العذاب في القبر على الروح والجسد جميعا ففي قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « إن العبد إذا وضع في القبر » دلالة ظاهرة على هذا إذ لفظ (العبد) مسمى للروح والجسد جميعا ، وكذلك تصريحه بإعادة الروح إلى الجسد عند السؤال كما في حديث البراء بن عازب هذا مع ما جاء في الحديثين من الألفاظ التي هي من صفات الجسد كقوله : « يسمع قرع نعالهم » (فيقعدانه) ، « ويضرب بمطارق من حديد »« فيصيح صيحة » ، فإن هذا كله يفيد أن ما يحصل في القبر من النعيم أو العذاب متعلق بالروح والجسد جميعهما .
_________
(1) مسند الإمام أحمد 4 / 287 ، وسنن أبي داود 5 / 75 برقم (4753) ، والمستدرك : 1 / 37- 38 .

هذا مع أنه قد جاء في بعض النصوص ما يفيد أن النعيم أو العذاب قد يقع على الروح منفردة في بعض الأحوال على ما جاء في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « لما أصيب إخوانكم يعني يوم أحد - جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش » (1) .
فتلخص من هذا أن النعيم والعذاب يقع على الروح والجسد جميعا في القبر وقد تنفرد الروح بهذا أحيانا . قال بعض الأئمة المحققين في السنة في تقرير هذه المسألة : (والعذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة ، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن ، وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها ، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين كما يكون للروح منفردة عن البدن) .
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1 / 266 ، والحاكم في المستدرك 2 / 88 ، 297 ، وصححه ووافقه الذهبي .

المطلب الثالث : الإيمان بالملكين منكر ونكير :
تقدم في مبحث الملائكة ذكر منكر ونكير وأنهما الملكان الموكلان بسؤال الميت في قبره في معرض الحديث عن وظائف الملائكة . والقصد هنا تقرير الإيمان بهما إيمانا مفصلا وما يحصل منهما من فتنة المقبورين إذ تقرير هذا هنا فرع عن الإيمان بنعيم القبر وعذابه في الجملة .

وقد دلت الأحاديث الصحيحة على وصف هذين الملكين وسؤالهما أهل القبور بعد الدفن كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « إذا قبر الميت أو قال أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير ، فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل ، فيقول : ما كان يقول هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذرعا في سبعين . . ، وإن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون فقلت مثله لا أدري : فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ، فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك » (1) . وقد دل على سؤال الملكين أيضا حديث أنس المتقدم في المطلب السابق .
فيجب الإيمان بما دلت عليه الأحاديث من اسم الملكين ووصفهما وسؤالهما المقبورين وكيفية ذلك وما يجيب به المؤمن وما يجيب به المنافق وما يعقب ذلك من النعيم أو العذاب على التفصيل الذي جاءت به الأحاديث .
_________
(1) سنن الترمذي 3 / 383 ، برقم (1071) ، وقال حديث حسن غريب والإحسان في تقرير ب صحيح ابن حبان : 7 / 386 ، برقم (3117) .

وقد اختلف العلماء هل السؤال في القبر خاص بهذه الأمة كما ذهب لذلك البعض أم أنه عام في كل الأمم كما هو قول فريق آخر من أهل العلم ، والذي يظهر من النصوص عدم اختصاص هذه الأمة به بل هو عام في كل الأمم وعلى هذا أكثر المحققين من أهل العلم والله تعالى أعلم .

المبحث الثالث
الإيمان بالبعث
الإيمان بالبعث من أعظم أصول الإيمان في هذا الدين وهو مشتمل على جوانب متعددة مما دلت عليه النصوص في هذا الباب ، وسيكون بحثه هنا من خلال عدة مطالب تجلي حقيقته وتبرز أهمية الإيمان به وما يجب على المؤمن أن يؤمن به من أحواله وأحداثه :
المطلب الأول : معنى البعث وحقيقته :
البعث في كلام العرب يأتي على وجهين :
أحدهما : الإرسال ، ومنه قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى } (الأعراف : 103) ، أي : أرسلنا .
والثاني : الإثارة والتحريك ، تقول بعثت البعير فانبعث أي أثرته فثار ، ومنه بعث الموتى وذلك بإحيائهم وإخراجهم من قبورهم . قال تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } . . . الآية (البقرة : 56) ، أي : أحييناكم .
والبعث في الشرع : هو إحياء الله للموتى وإخراجهم من قبورهم .

وحقيقة البعث : أن الله تعالى يجمع أجساد المقبورين التي تحللت ويعيدها بقدرته كما كانت ثم يعيد الأرواح إليها ويسوقهم إلى محشرهم لفصل القضاء . قال تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ }{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } (يس : 78 ، 79) .
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « إن رجلًا حضره الموت لما أيس من الحياة أوصى أهله : إذا مت فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا ثم أوروا نارًا حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فخذوها فاطحنوها فذروني في اليم في يوم حار أو راح فجمعه الله فقال : لم فعلت ؟ قال : خشيتك ، فغفر له » (1) .
فدلت الآية والأحاديث على أن الله تعالى يعيد الأجساد نفسها ويجمع رفاتها المتحلل حتى تعود كما كانت فيعيد إليها أرواحها فسبحان من لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3479) .

وقد جاء في السنة بيان كيفية البعث وأن الله ينزل إلى الأرض ماءً فينبت به أهل القبور كما ينبت العشب وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة الذي أخرجه الشيخان « أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : (ما بين النفختين أربعون) قال : أربعون يومًا . قال : أبَيْت ، قال : أربعون شهرًا ؟ قال : أبيت ، قال : أربعون سنة ؟ قال : أبيت ، قال : (ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظمًا واحدًا ، وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة » (1) . فقد دل هذا الحديث على كيفية البعث وأن أهل القبور يبقون في قبورهم أربعين بين النفختين وهما نفخة الإماتة ونفخة البعث ولم يجزم الراوي بتحديد الأربعين ما هي وهل المراد أربعون يومًا أو شهرًا أو سنة على أنه جاء في بعض الروايات أنها أربعون سنة . ثم إذا أراد الله بعث الخلائق أنزل مطرًا من السماء . جاء في بعض الروايات أنه مثل مني الرجال فينبت أهل القبور من ذلك الماء كما ينبت العشب بعد أن فتت أجسادهم إلا عجب الذنب وهذا بخلاف الأنبياء فإن أجسادهم لا تبلى كما تقدم تقريره فتبين بهذا حقيقة البعث ووقته وكيفيته والله أعلم .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (4935) ، وصحيح مسلم برقم (2955) .

المطلب الثاني : أدلة البعث من الكتاب والسنة والنظر :
دَلّ الكتابُ والسنة على بعث الله تعالى للأموات وجاء تقريره في مواطن كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم .
فمن الكتاب قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (البقرة : 56) ، وقوله عز وجل : { مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (لقمان : 28) ، وقوله تعالى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (التغابن : 7) .

ومن السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله قال : ثم ينفخ فيه مرة أخرى فأكون أول من بعث أو في أول من بعث فإذا موسى آخذ بالعرش » . . ) (1) . وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الصحيحين : « فأكون أول من تنشق عنه الأرض » (2) . فدل الحديثان على بعث الله تعالى للأموات يوم القيامة من قبورهم إلى أرض المحشر وفيهما فضيلة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم لكونه أول من يبعث .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3414) ، وصحيح مسلم برقم (2373) ، وغيرهما .
(2) صحيح البخاري برقم (2412) ، وصحيح مسلم برقم (2278) .

كما دل النظر الصحيح على تقرير البعث وذلك أن البعث هو إعادة للخلق ومعلوم لكل عاقل أن الإعادة للشيء أهون من إنشائه وابتدائه ولهذا قال الله تعالى في كتابه مقررًا للبعث ووقوعه بإبداء خلق الإنسان ونشأته الأولى وبأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة من باب أولى ، فقال المعترض على البعث كما حكى الله عنه : { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } (يس : 78) ، قال تعالى : { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } (يس : 79) ، وقال تَعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } (الروم : 27) . فهذا دليل شرعي عقلي من كتاب الله للرد على كل معاند مكذب بالبعث ، وهو دليل لا يستطيع رده .

المطلب الثالث : الحشر :
دلت النصوص على حشر العباد بعد بعثهم إلى أرض المحشر حفاة عراة غرلا قال تعالى : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } (الكهف : 47) ، وقال تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } (إبراهيم : 48) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم يقول : « يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلا (1) ) قلت : يا رسول الله! النساء والرجال جميعًا ، ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : (يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض » (2) .
وهذا الحشر عام لجميع الخلائق . وقد دلت النصوص أن هناك حشرا آخر إما في الجنة وإما في النار فيحشر المؤمنون إلى الجنة وفدا والوفد هم القائمون الركبان . قال تعالى : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } (مريم : 85) .
_________
(1) غرلا : غير مختونين .
(2) متفق عليه : صحيح البخاري برقم (6527) ، وصحيح مسلم برقم (2859) .

أخرج الطبري عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : (أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ، ولا يساقون سوقا ولكنهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها ، عليها رحال الذهب ، وأزمتها الزبرجد فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة) (1) . وأما الكفار فإنهم يحشرون إلى النار على وجوههم عميا وبكما وصما . قال تعالى : { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا } (الفرقان : 34) . قال تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } (الإسراء : 97) .
_________
(1) تفسير الطبري (8 / 380) .

المطلب الرابع : الحوض ، صفته وأدلته :
الحوض مورد عظيم أعطاه الله لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في المحشر يرده هو وأمته . جاء وصفه في النصوص أنه أشد بياضا من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وأحلى من العسل ، وأطيب ريحا من المسك ، وهو في غاية الاتساع ، عرضه وطوله سواء ، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر ، يمد ماؤه من الجنة ، فيه ميزابان يمدانه من الجنة ، أحدهما من ذهب والآخر من فضة ، وآنيته كعدد نجوم السماء .
وقد دل على ثبوت الحوض وأنه حق كثير من الأحاديث الصحيحة ذكر بعض المحققين أنها تبلغ حد التواتر ورواها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم بضعة وثلاثون صحابيًّا . منها حديث أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء » (1) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء من يشرب منها فلا يظمأ أبدًا » (2) .
_________
(1) متفق عليه ، صحيح البخاري برقم (6580) ، وصحيح مسلم برقم (2303) .
(2) متفق عليه ، صحيح البخاري برقم (6579) ، وصحيح مسلم برقم (2292) .

والحوض يكون في أرض المحشر ويمد ماؤه من الكوثر وهو نهر آخر أعطاه الله لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في الجنة قال تعالى : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } (الكوثر : 1) . وقد اختلف أهل العلم في الميزان والحوض أيهما يكون قبل الآخر فقيل الميزان قبل ، وقيل : الحوض . والصحيح أن الحوض قبل . قال القرطبي : والمعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشا من قبورهم .

المطلب الخامس : الميزان صفته وأدلته :
مما يجب الإيمان به في أحداث اليوم الآخر : الميزان . وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان ، توزن فيه أعمال العباد فيرجح بمثقال ذرة من خير أو شر ، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على ثبوت الميزان .

قال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } . . الآية (الأنبياء : 47) ، وقال عز وجل : { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ }{ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ }{ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ }{ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } (القَارعة : 6-9) . وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم » (1) . وروى الإمام أحمد والحاكم وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه « أنه تسلق أراكة وكان دقيق الساقين فجعلت الريح تكفؤه (أي تحركه) فضحك القوم فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : (مم تضحكون ؟ ) قالوا : يا نبي الله من دقة ساقيه . فقال : (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد) » (2) صححه الحاكم ووافقه الذهبي .
والذي يوزن في الميزان ثلاثة ، وقد دلت على ذلك النصوص :
1 - الأعمال ، فقد ثبت أنها تجسم وتوزن في الميزان ودل عليه حديث أبي هريرة السابق : (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن . . . ) الحديث .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7563) ، وصحيح مسلم برقم (2694) .
(2) مسند الإمام أحمد 1 / 420- 421 ، والمستدرك 3 / 317 .

2 - صحف الأعمال ، وقد دل على ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تَسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول : أتنكر من هذا شيئًا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب . فيقول : ألك عذر أو حسنة ؟ فيبهت الرجل ، فيقول : لا يا رب . فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، فيقول : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم » (1) .
3 - العامل نفسه ، وقد دل على وزنه قوله تعالى : { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } (الكهف : 105) ، وكذلك حديث عبد الله بن مسعود السابق وأن ساقيه في الميزان أثقل من أحد .
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2 / 213 وقوله (بسم الله) أي مع اسم الله ، والترمذي في السنن 5 / 24-25 ، برقم (2639) والحاكم في المستدرك 1 / 6 ، 529 وصححه ووافقه الذهبي .

المطلب السادس : الشفاعة ، تعريفها وأنواعها وأدلتها :
الشفاعة في اللغة : الوسيلة والطلب . وفي العرف : سؤال الخير للغير .
والشفاعة عند اللهّ : سؤال الله التجاوز عن الذنوب والآثام للغير .
وحقيقتها أن الله تعالى بلطفه وكرمه يأذن يوم القيامة لبعض الصالحين من خلقه من الملائكة والمرسلين والمؤمنين أن يشفعوا عنده في بعض أصحاب الذنوب من أهل التوحيد إظهارًا لكرامة الشافعين عنده ورحمة بالمشفوع فيهم .
ولا تصح الشفاعة عند الله تعالى إلا بشرطين :
أحدهما : إذن الله تعالى للشافع أن يشفع ، وقد دل على هذا الشرط قوله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } (البقَرة : 255) . وقوله تعالى : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } (سبأ : 23) .

الثاني : رضا الله عن المشفوع له أن يشفع فيه ، وقد دل على هذا الشرط قوله تعالى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } (الأنبياء : 28) . وقد دلت النصوص أن الله لا يرضى أن يشفع إلا في أهل التوحيد لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا » (1) . وقال تعالى في الكفار : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (المدثر : 48) .
وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات الشفاعة عند الله يوم القيامة . أما الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها ، وأما من السنة فالأحاديث في إثبات الشفاعة كثيرة منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : ( . . « فيقول الله تبارك وتعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط » (2) .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (199) .
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 3 / 94 ، وعبد الرزاق في المصنف 11 / 410 برقم (20857) .

والأحاديث في إثبات الشفاعة كثيرة جدًّا وقد صرح الأئمة المحققون بتواترها واشتهارها في كتب الصحاح والمسانيد . ففي الصحيحين : « يُخرج من النار من كان في قلبه حبة من خردل من إيمان » (1) .
أقسام الشفاعة :
والشفاعة تنقسم من حيث القبول والرد إلى قسمين : مردودة وهي ما فقدت أحد شروط الشفاعة السابقة ، ومقبولة وهي ما تحققت فيها شروط الشفاعة . وقد ثبت لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم منها ثمانية أنواع ، وهي :
1 - الشفاعة العظمى وهي شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في أهل الموقف أن يقضي الله بينهم وهي المقام المحمود وهذه الشفاعة مما اختص بها نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم على غيره من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين .
2 - شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيشفع فيهم أن يدخلوا الجنة .
3 - شفاعته في أقوام استحقوا النار أن لا يدخلوها .
4 - شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم رفع درجات أهل الجنة في الجنة .
5 - شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7439) ، في حديث طويل ، وصحيح مسلم برقم (184) .

6 - شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في تخفيف العذاب عمن كان يستحقه كشفاعته في عمه أبي طالب .
7 - شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في أهل الجنة أن يؤذن لهم بدخول الجنة .
8 - شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار أن يخرج منها .
وقد دلت النصوص الصحيحة على هذه الأنواع كلها وهي مبسوطة في مواضعها من كتب السنة والاعتقاد . وهذه الأنواع منها ما هو خاص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم كالشفاعة العظمى وشفاعته في عمه أبي طالب وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها ومنها ما يشاركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين كالشفاعة في أهل الكبائر وغيرها من الأنواع الأخرى على اختلاف بين أهل العلم في اختصاصه ببعضها من عدمه ، والله تعالى أعلم .

المطلب السابع : الصراط ، صفته وأدلته :
الصراط في اللغة : الطريق الواضح .
وفي الشرع : جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون وهو طريق أهل المحشر لدخول الجنة . وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات الصراط .
قال تعالى : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا }{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } (مريم : 71 ، 72) ذهب أكثر المفسرين أن المقصود بورود النار هنا : المرور على الصراط وهو منقول عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار وغيرهم .
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو حديث طويل في الرؤية والشفاعة وفيه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : ( . . « ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم قلنا يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : مدحضة مزلة ، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان ، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق ، وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم يمر آخرهم يسحب سحبا » (1) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7439) ، وصحيح مسلم برقم (183) ، واللفظ للبخاري .

وقد جاء وصف الصراط في نصوص كثيرة وملخص ما جاء فيها أنه أدق من الشعر وأحد من السيف دحض مزلة لا تثبت عليه قدم إلا من ثبته الله وأنه ينصب في ظلمة فيعطى الناس أنوارا على قدر إيمانهم ويمرون فوقه على قدر إيمانهم على ما جاء في الحديث السابق .

المطلب الثامن : الجنة والنار ، صفتهما وكيفية الإيمان بهما وأدلة ذلك :
مما يجب اعتقاده والإيمان به الجنة والنار .

والجنة هي دار الثواب لمن أطاع الله وموضعها في السماء السابعة عند سدرة المنتهى . قال تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }{ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى }{ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } (النجم : 13-15) ، والجنة مائة درجة بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض كما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض » (1) . وأعلى الجنة الفردوس الأعلى وفوقه العرش ومنه تتفجر أنهار الجنة كما جاء في حديث أبي هريرة السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة » . وللجنة ثمانية أبواب كما جاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في صحيح البخاري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « في الجنة ثمانية أبواب فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون » (2) ، وقد أعد الله لأهل الجنة فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (2790) .
(2) صحيح البخاري برقم (3257) .

وأما النار فهي دار العقاب الأبدي للكافرين والمشركين والمنافقين النفاق الاعتقادي ، ولمن شاء الله من عصاة الموحدين بقدر ذنوبهم ثم مآلهم إلى الجنة . كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (النساء : 48) وموضعها في الأرض السابعة كذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما . وللنار دركات بعضها أسفل من بعض ، قال عبد الرحمن بن أسلم : ( درجات الجنة تذهب علوا ودرجات النار تذهب سفولا ، وأسفل الدركات هي دار المنافقين كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } . . . الآية (النساء : 145) ، وللنار سبعة أبواب ، قال تعالى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } (الحجرِ : 44) ، ونار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم على ما جاء في حديث أبي هريرة الذيَ أخرجه الشيخان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم » (1) .
والإيمان بالجنة والنار يتحقق بثلاثة أمور :
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3265) ، وصحيح مسلم برقم (871) .

الأول : الاعتقاد الجازم بأنهما حق وأن الجنة دار المتقين والنار دار الكافرين والمنافقين . قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا }{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } (النساء : 56 ، 57) .
الثاني : اعتقاد وجودهما الآن . قال تعالى في الجنة . { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } (آل عمران : 133) ، وقال تعالى في النار : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (البقرة : 24) ، وجاء في الصحيحين من حديث عمران بن حصين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء » (1) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3241) ، وصحيح مسلم برقم (2738) مختصرا بمعناه ، واللفظ للبخاري .

الثالث : اعتقاد دوامهما وبقائهما وأنهما لا تفنيان ولا يفنى من فيهما . قال تعالى في الجنة : { خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (النساء : 13) ، وقال تعالى عن النار : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } (الجن : 23) . والمقصود من المعصية هنا الكفر ، لتأكيد الخلود في النار بالتأبيد ، قال القرطبي قوله (أبدا) دليل على أن العصيان هنا هو الشرك (1) . وروى الشيخان من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « يدخل الله أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول : يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه » (2) .
ثمرات الإيمان باليوم الآخر :
وللإيمان باليوم الآخر ثمرات عظيمة في حياة المؤمن من أهمها :
1- الحرص على طاعة الله رغبة في ثواب ذلك اليوم والبعد عن معصيته خوفا من عقاب ذلك اليوم .
2- تسلية المؤمن عما يفوته من نعيم الدنيا ومتاعها بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها .
3- استشعار كمال عدل الله تعالى حيث يجازي كلا بعمله مع رحمته بعباده .
_________
(1) القرطبي 19 / 27 ، وفتح القدير 5 / 307 .
(2) صحيح البخاري برقم (6544) ، وصحيح مسلم برقم (2850) ، واللفظ لمسلم .

الفصل الخامس :
الإيمان بالقضاء والقدر ، ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول : تعريف القضاء والقدر ، وأدلة ثبوتهما مع بيان الفرق بينهما .
المبحث الثاني : مراتب القدر .
المبحث الأول
تعريف القضاء والقدر ، وأدلة ثبوتهما
مع بيان الفرق بينهما
تعريف القضاء والقدر :
القضاء لغة : الحكم والفصل .
وشرعا : هو ما قضى به الله سبحانه وتعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير .
والقدر : مصدر قدرت الشيء أقدره إذا أحطت بمقداره .
والقدر في الشرع : هو ما قدره الله تعالى في الأزل ، أن يكون في خلقه بناء على علمه السابق بذلك .
الفرق بين القضاء والقدر :

ذكر العلماء في التفريق بين القضاء والقدر . أن القدر : هو تقدير لشيء قبل قضائه . والقضاء هو الفراغ من الشيء . ومن الشواهد التي ذكرها أبو حاتم للتفريق بين القضاء والقدر أن القدر منزلة تقدير الخياط للثوب فهو قبل أن يفصله يقدره فيزيد وينقص فإذا فصله فقد قضاه وفرغ منه وفاته التقدير . وعلى هذا يكون القدر سابقا للقضاء . قال ابن الأثير : (فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر ، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه) .
والقضاء والقدر إذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى فأصبح لكل منهما معنى يخصه ، وإذا افترقا في الذكر دخل أحدهما في معنى الآخر . ذكر ذلك بعض أهل العلم .
الأدلة على إثبات القدر :
الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على إثباته وتقريره .

فمن الكتاب قول الله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (القمر : 49) ، وقوله تعالى { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } (الأحزاب : 38) ، وقوله تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } (الفرقان : 2) .
وأما السنة فقد دلت كذلك على إثبات القدر في أحاديث كثيرة منها حديث جبريل وسؤاله للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم عن أركان الإيمان فذكر منها : « الإيمان بالقدر خيره وشره » وقدم تقدم الحديث بنصه في مبحث الملائكة . وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم يقول : « كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وقال : وكان عرشه على الماء » (1) .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2653) .

والإيمان بالقدر محل إجماع الأمة من الصحابة ومن بعدهم . أخرج مسلم في صحيحه عن طاوس أنه قال : (أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم يقولون كل شيء بقدر) . قال : وسمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز » (1) ، والكيس : ضد العجز وهو النشاط والحذق بالأمور . قال الإمام النووي : (تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى) .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2655) .

المبحث الثاني
مراتب القدر
للقدر أربع مراتب دلت عليها النصوص وقررها أهل العلم . وهي :
المرتبة الأولى : علم الله بكل شيء من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات وإحاطته بذلك علمًا فعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون . وقد دل على ذلك قوله تعالى : { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } (الطلاق : 12) .
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : « سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم عن أولاد المشركين فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين » (1) .
المرتبة الثانية : كتابة الله تعالى لكل شيء مما هو كائن إلى قيام الساعة . قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ( الحج : 70) . وقال تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } ( يس : 12) . ومن السنة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم في كتابة الله مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (1384) ، وصحيح مسلم برقم (2659) .

المرتبة الثالثة : المشيئة فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (يس : 82) . وقال تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (التكوير : 29) . وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت! اللهم ارحمني إن شئت! ليعزم في الدعاء فإن الله صانع ما شاء لا مكره له » (1) .
المرتبة الرابعة : خلق الله تعالى للأشياء وإيجادها وقدرته الكاملة على ذلك فهو سبحانه خالق لكل عامل وعمله وكل متحرك وحركته وكل ساكن وسكونه . قال تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } (الزمر : 62) . وقال تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } (الصافات : 96) . وروى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : ( . . « كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض » (2) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (6339) ، وصحيح مسلم برقم (2679) ، واللفظ لمسلم .
(2) صحيح البخاري برقم (3191) .

فيجب الإيمان بهذه المراتب الأربع لتحقيق الإيمان بالقدر ومن أنكر شيئًا منها لم يحقق الإيمان بالقدر . والله تعالى أعلم .
ثمرات الإيمان بالقدر :
لتحقيق الإيمان بالقدر أثره البالغ وثمراته النافعة في حياة المؤمن فمن ذلك :
1 - الاعتماد على الله تعالى عند فعل الأسباب لأنه مقدر الأسباب والمسببات .
2 - راحة النفس وطمأنينة القلب إذا أدرك العبد أن كل شيء بقضاء الله وقدره .
3- طرد الإعجاب بالنفس عند حصول المراد لأن حصول ذلك نعمة من الله بما قدره من أسباب ذلك الخير والنجاح فيشكر الله ويدع الإعجاب .
4- طرد القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول المكروه لأن ذلك بقضاء الله وقدره فيصبر على ذلك ويحتسب .

الباب الثالث
مسائل متفرقة في العقيدة
ويتضمن خمسة فصول :
الفصل الأول : الإسلام والإيمان والإحسان .
الفصل الثاني : الولاء والبراء ، معناه وضوابطه .
الفصل الثالث : حقوق الصحابة وما يجب نحوهم .
الفصل الرابع : الواجب نحو أئمة المسلمين وعامتهم ولزوم جماعتهم .
الفصل الخامس : وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة والنهي عن التفرق .
الفصل الأول :
الإسلام والإيمان والإحسان
المبحث الأول : الإسلام .
المبحث الثاني : الإيمان .
المبحث الثالث : الإحسان .
المبحث الرابع : العلاقة بين الإسلام ، والإيمان والإحسان .
المبحث الأول : الإسلام
تعريف الإسلام :
الإسلام لغة : الانقياد والاستسلام والخضوع .
وشرعا : هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك ومعاداة أهله . قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (الأنعام : 162 ، 163) . وقال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران : 85) .

أركان الإسلام :
أركان الإسلام خمسة بينها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله » (1) . ويدل على هذا حديث جبريل المتقدم وفيه أنه قال : « يا محمد ! أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا . قال : صدقت » . . . إلخ) (2) .
معنى الشهادتين :
*معنى شهادة أن لا إله إلا الله : أي لا معبود بحق إلا الله .
*ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله : طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر به واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .
_________
(1) صحيح البخاري ، حديث برقم (8) ، وصحيح مسلم حديث برقم (16) .
(2) تقدم متفق عليه : صحيح البخاري حديث برقم (8) ، وصحيح مسلم حديث برقم (8) .

المبحث الثاني : الإيمان وأركانه
وبيان حكم مرتكب الكبيرة
تعريفه :
الإيمان لغة : التصديق والإقرار .
وشرعًا : اعتقاد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح .
أركانه وأدلته :
أركان الإيمان ستة يدل عليها قول الله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (البقرة : 177) .
ومن السنة ما جاء في حديث جبريل عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال : « أخبرني عن الإيمان ، قال : (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره . قال : صدقت » . . . إلخ) (1) .
زيادة الإيمان ونقصانه :
دل الكتاب والسنة على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
_________
(1) متفق عليه : صحيح البخاري حديث برقم (50) ، وصحيح مسلم حديث برقم (8) .

فالدليل من الكتاب قول الله تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (محمد : 17) . وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (الأنفال : 2) .
وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } (الفتح : 4) .
ومن السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان » (1) . وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان » (2) .
حكم مرتكب الكبيرة :
كبائر الذنوب نوعان : مكفّر وغير مكفر . فأما المكفر فهو الشرك بالله لأنه أعظم ذنبا عُصي به الله والنفاق الاعتقادي وسب الله ورسوله ونحو ذلك .
_________
(1) صحيح البخاري حديث برقم (7510) ، صحيح مسلم حديث برقم (193) .
(2) صحيح مسلم كتاب الإيمان حديث رقم (57) .

والنوع الثاني كبائر غير مكفّرة ولا يخرج مرتكبها من الملة إلا إذا استحلها . وهي سائر الذنوب التي دون الكفر كالربا والقتل والزنا ونحو ذلك .
وقد دل الكتاب والسنة على أن مرتكب الكبيرة غير المكفّرة مؤمن ناقص الإيمان ، ويسمى فاسقًا وعاصيًا .
وحكمه في الآخرة أنه تحت المشيئة فإن شاء الله غفر له برحمته وإن شاء عذبه بعدله وهو مع هذا لا يخلد في النار إذا عُذب بل مآله إلى الجنة بما معه من التوحيد والإيمان . قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } (النساء : 116) .
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير » (1) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (44) ، وصحيح مسلم برقم (192) .

وهذا الذي دلت عليه النصوص هنا هو الذي عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم على الخير والهدى في حكم مرتكب الكبيرة وهو المنهج الوسط بين الغلو في هذا الباب وهو مذهب الخوارج قديمًا وحديثًا الذين يكفرون مرتكب الكبيرة ويخرجونه من الملة ويستبيحون دمه ويعتقدون أنه يوم القيامة خالد مخلد في النار ، وبين أهل التقصير الذين يرون أن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان ولا يفرقون بين مرتكب الكبيرة وبين المؤمن الكامل الذي أدى الطاعات وتجنب المحرمات كما هو مذهب غلاة المرجئة .
الأدلة على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر :
دل القرآن والسنة على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر .

فمن القرآن قوله تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الحجرات : 9 ، 10) . ووجه الدلالة من الآيتين هو أن الله أثبت الإيمان لمرتكبي معصية الاقتتال من المؤمنين والباغي من بعض الطوائف على بعض وهي من الكبائر وجعلهم إخوة وأمر تعالى المؤمنين بالإصلاح بين إخوتهم في الإيمان .
ومن السنة ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « يدخل أهل الجنة الجنة ، يدخل من يشاء برحمته ، ويدخل أهل النار النار ثم يقول : انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان فأخرجوه » . . ) (1) .
_________
(1) صحيح مسلم كتاب الإيمان باب الشفاعة وإخراج الموحدين من النار حديث رقم 184 .

ووجه الدلالة من الحديث هو عدم تخليد مرتكبي الكبائر في النار حيث يخرج منها من كان في قلبه أدنى شيء من الإيمان كما يدل الحديث على تفاوت أهل الإيمان على حسب أعمالهم وأنه يزيد وينقص بحسب ما يترك المؤمن من واجبات أو يرتكب من محظورات .

المبحث الثالث : الإحسان
تعريفه :
الإحسان معناه مراقبة الله تعالى في السر والعلن مراقبة من يحبه ويخشاه ويرجو ثوابه ويخاف عقابه بالمحافظة على الفرائض والنوافل واجتناب المحرمات والمكروهات . والمحسنون هم السابقون بالخيرات المتنافسون في فضائل الأعمال .
أدلته :
من الكتاب قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (النحل : 128) .
ومن السنة ما جاء في حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم فقال : أخبرني عن الإحسان . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « أن تعبد الله كأنك تراه فإن تكن تراه فإنه يراك » (1) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص113 .

المبحث الرابع
العلاقة بين الإسلام والإيمان والإحسان
جاء ذكر الإسلام والإيمان والإحسان في حديث جبريل ومجيئه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم وسؤاله عن هذه الأمور الثلاثة فأجاب عن الإسلام بامتثال الأعمال الظاهرة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وعن الإيمان بالأمور الباطنة الغيبية ، وهي : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ، وعن الإحسان بمراقبة الله في السر والعلانية ، فقَال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك .
فإذا ذكرت هذه الأمور الثلاثة مجتمعة كان لكل واحد منها معنى خاص ، فيقصد بالإسلام الأعمال الظاهرة ويقصد بالإيمان الأمور الغيبية . ويقصد بالإحسان أعلى درجات الدين وإذا انفرد الإسلام دخل فيه الإيمان وإذا انفرد الإيمان دخل فيه الإسلام وإذا انفرد الإحسان دخل فيه الإسلام والإيمان .

الفصل الثاني :
الولاء والبراء : معناه وضوابطه
التعريف :
الولاء : مصدر ولي بمعنى قرب منه ، والمراد به هنا القرب من المسلمين بمودتهم وإعانتهم ومناصرتهم على أعدائهم والسكنى معهم .
والبراء : مصدر برى ، بمعنى قطع . ومنه برى القلم بمعنى قطعه . والمراد هنا قطع الصلة مع الكفار فلا يحبهم ولا يناصرهم ولا يقيم في ديارهم إلا لضرورة .
الولاء والبراء من حقوق التوحيد :

يجب على المسلم أن يوالي في الله وأن يعادي في الله وأن يحب في الله ، وأن يبغض في الله ، فيحب المسلمين ويناصرهم ويعادي الكافرين ويبغضهم ويتبرأ منهم . قال تعالى في وجوب موالاة المؤمنين : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }{ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (المائدة : 55 ، 56) . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (المائدة : 51) . وقال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } (المجادلة : 22) .

ويتضح من هذه الآيات الكريمة وجوب موالاة المؤمنين وما ينتج عن ذلك من الخير ووجوب معاداة الكفار والتحذير من موالاتهم وما تؤدي إليه موالاتهم من شر .
مكانة الولاء والبراء في الدين :
إن للولاء والبراء في الإسلام مكانة عظيمة ، فهو أوثق عرى الإيمان . ومعناه توثيق عرى المحبة والألفة بين المسلمين ومفاصلة أعداء الإسلام . فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله » (1) .
الفرق بين المداهنة والمداراة وأثرهما على الولاء والبراء :
_________
(1) رواه الطبراني في الكبير (11 / 215) ، والبغوي في شرح السنة (3 / 429) ، بسند حسن .

المداهنة : هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومصانعة الكفار والعصاة من أجل الدنيا والتنازل عما يجب على المسلم من الغيرة على الدين . ومثاله الاستئناس بأهل المعاصي والكفار ومعاشرتهم وهم على معاصيهم أو كفرهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة عليه . قال الله تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }{ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }{ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (المائدة : 78 - 80) .

المداراة : هي درء المفسدة والشر بالقول اللين وترك الغلظة أو الإعراض عن صاحب الشر إذا خيف شره أو حصل منه أكبر مما هو ملابس له . كالرفق بالجاهل في التعليم ، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه ، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تأليفه . وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها ، « أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال : (بئس أخو العشيرة . وبئس ابن العشيرة) ، فلما جلس تطلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في وجهه وانبسط إليه ، فلما انطلق الرجل قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : (يا عائشة متى عهدتني فحاشًا ، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) » (1) . فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم دارى هذا الرجل لما دخل عليه مع ما فيه من الشر لأجل المصلحة الدينية ، فدل على أن المداراة لا تتنافى مع الموالاة إذا كان فيها مصلحة راجحة من كف الشر والتأليف أو تقليل الشر وتخفيفه ، وهذا من مناهج الدعوة إلى الله تعالى . ومن ذلك
_________
(1) صحيح البخاري برقم (6032) .

مداراة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم للمنافقين في المدينة خشية شرهم وتأليفًا لهم ولغيرهم .
وهذا بخلاف المداهنة فإنها لا تجوز إذ حقيقتها مصانعة أهل الشر لغير مصلحة دينية وإنما من أجل الدنيا .
نماذج من الولاء والبراء :
قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } (الممتحنة : 4) . وقال تعالى في موالاة الأنصار لإخوانهم المهاجرين : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (الحشر : 9) .
حكم موالاة العصاة والمبتدعين :

إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة ، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر . فقد يجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة ، فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته ويتصدق عليه . هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة .
هل يدخل في الموالاة معاملة الكفار في الأمور الدنيوية :
دلت النصوص الصحيحة على جواز التعامل مع الكفار في المعاملات الدنيوية كمسائل البيع والشراء والإيجار والاستئجار والاستعانة بهم عند الحاجة والضرورة على أن يكون ذلك في نطاق ضيق وأن لا يضر بالإسلام والمسلمين . « فقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أرَيْقط هاديًا خِرِّيتًا » (1) . والخريت هو الخبير بمعرفة الطريق .
_________
(1) صحيح البخاري حديث رقم (2263) .

ورهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي في صاع من شعير وأجر علي رضي الله عنه نفسه ليهودية يمتح لها الماء من البئر فمتح لها ست عشرة دلوًا كل دلو بتمرة . وقد استعان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم باليهود الذين كانوا في المدينة في قتال المشركين . واستعان بخُزاعة ضد كفار قريش . وهذا كله لا يؤثر على الولاء والبراء في الله على أن يلتزم الكفار الذين يقيمون بين المسلمين بالآداب العامة وأن لا يدعوا إلى دينهم .

الفصل الثالث :
حقوق الصحابة وما يجب نحوهم
المبحث الأول : من هم الصحابة ووجوب محبتهم وموالاتهم .
المبحث الثاني : وجوب اعتقاد فضلهم وعدالتهم والكف عما شجر بينهم في ضوء الأدلة الشرعية .
المبحث الثالث : أهل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم وحقوقهم وبيان أن زوجاته من أهل بيته .
المبحث الرابع : الخلفاء الراشدون ، فضلهم وما يجب نحوهم وترتيبهم .
المبحث الخامس : العشرة المبشرون بالجنة .
المبحث الأول
من هم الصحابة ووجوب محبتهم وموالاتهم
تعريف الصحابي :
الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا ومات على ذلك .
وجوب محبتهم وموالاتهم :

الصحابة هم خير القرون ، وصفوة هذه الأمة وأفضل هذه الأمة بعد نبيها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ، ويجب علينا أن نتولاهم ونحبهم ونترضى عنهم وننزلهم منازلهم ، فإن محبتهم واجبة على كل مسلم ، وحبهم دين وإيمان وقربى إلى الرحمن ، وبغضهم كفر وطغيان . فهم حملة هذا الدين ، فالطعن فيهم طعن في الدين كله لأنه وصلنا عن طريقهم بعد أن تلقوه غضًّا طريًّا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم مشافهة ونقلوه لنا بكل أمانة وإخلاص ونشروا الدين في كافة ربوع الأرض في أقل من ربع قرن وفتح الله على أيديهم بلاد الدنيا فدخل الناس في دين الله أفواجًا .
وقد دل الكتاب والسنة على وجوب موالاة الصحابة ومحبتهم وأنها دليل صدق إيمان الرجل . فمن الكتاب قوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } (التوبة : 71) . وإذا كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم مقطوعًا بإيمانهم بل هم أفضل المؤمنين لتزكية الله ورسوله لهم فإن موالاتهم ومحبتهم دليل إيمان من قامت به هذه الصفة .

ومن السنة حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار » (1) .
والنصوص في هذا كثيرة جدًّا لا يسع المقام ذكرها على أنه يحسن التنبيه هنا على ما يترتب على موالاة الصحابة رضوان الله عليهم من الآثار الطيبة في الدنيا والآخرة مما يشحذ الهمم على تحقيق موالاتهم .
فمن آثار موالاتهم الطيبة في الدنيا الفلاح والغلبة والنصر كما قال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (المائدة : 56) . قال ابن كثير : (كل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة) .
ومن ثمار محبتهم في الآخرة ما يُرجى لمُحبّهم من الحشر معهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : « جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم فقال : يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قومًا ولم يلحق بهم ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : (المرء مع من أحب) » (2) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (17) .
(2) صحيح مسلم برقم (6168) .

ولذا كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم يتقربون إلى الله بمحبة أبي بكر وعمر ويعدون ذلك من أفضل أعمالهم وأرجاها عند الله . روى الإمام البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه « أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم عن الساعة فقال : متى الساعة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (وماذا أعددت لها) . قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله ، فقَال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : (أنت مع من أحببت) ، فقال أنس : فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنت مع من أحببت . قال أنس : (فأنا أحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم » (1) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3688) .

المبحث الثاني
وجوب اعتقاد فضلهم وعدالتهم
والكف عما شجر بينهم في ضوء الأدلة الشرعية
فضلهم :

لقد أثنى الله تعالى على الصحابة ورضي عنهم ووعدهم الحسنى . كما قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة : 100) . وقال تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } (الفتح : 18) . وقال تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }{ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (الحشر : 8- 10) .
فقد دلت الآيات الكريمة على فضل الصحابة والثناء عليهم من المهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة وكل من حصل على شرف الصحبة . ووصف الذين جاؤوا من بعدهم بأنهم يستغفرون لمن سبقهم من الصحابة ويدعون الله تعالى ألا يجعل في قلوبهم غلًّا للذين آمنوا .
كما تضمنت الآيات وغيرها مما لا يمكن حصره من الترضي عنهم وبشارتهم بالجنة وحصولهم على الفوز العظيم ومدحهم وذكر بعض صفاتهم من الحب والإيثار والكرم والجود وحب إخوانهم المسلمين ونصرهم لدين الله ونحو ذلك من الأوصاف العظيمة والذكر الجميل ما هم أهل له .
وقد أثنى عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم بأحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يدخل النار أحدٌ بايع تحت الشجرة » (1) . وقد جاءت أحاديث بعضها عامة في فضل جميع الصحابة وبعضها في فضل أهل بدر ، وبعضها في أفراد بخصوصهم .
_________
(1) صحيح مسلم : حديث برقم (2496) .

فالواجب على المسلمين تطبيق هذه النصوص وتولي الصحابة جميعًا ، ومحبتهم والترضي عنهم ، وذكرهم بكل جميل ، والاقتداء بهم والسير على منهجهم .
وجوب الكف عما شجر بين الصحابة وحكم سبهم :

عرفنا أن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم هم الصفوة المختارة من هذه الأمة بعد نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ، فهم السابقون إلى الإسلام وهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى ، وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده وأبلوا بلاءً حسنًا في الذود عن حياض الإسلام حتى مكن الله لهذا الدين في الأرض على أيديهم . فمن تنقصهم أو سبهم أو نال من أحد منهم فهو من شر الخليقة ؛ لأن عمله هذا اعتداء على الدين كله . ومن كفرهم أو اعتقد ردتهم فهو أولى بالكفر والردة وإنه مهما عمل أحدٌ بعدهم من عمل فإنه لن يبلغ شيئًا من فضلهم . فقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « لا تسبوا أحدًا من أصحابي ، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مُد أحدهم ولا نصيفه » (1) . فقد دل الحديث على تحريم سب أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم والتأكيد على أنه لن يبلغ أحد مبلغهم مهما قدم من عمل .
_________
(1) صحيح البخاري حديث برقم (3673) ، ومسلم كتاب الفضائل حديث رقم (2540 ، 2541).

فالواجب على المسلمين اعتقاد عدالتهم والترضي عنهم والكف عما شجر بينهم وعدم الخوض فيما جرى بينهم من خلاف وترك سرائرهم إلى الله تعالى . قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : (أولئك قوم طهر الله أيدينا من دمائهم ، فلنطهر ألسنتنا من أعراضهم) .
وخلاصة القول أن أهل السنة يوالون الصحابة كلهم وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف ، لا بالهوى والتعصب . فإن ذلك كله من البغي الذي هو مجاوزة الحد .

المبحث الثالث
أهل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم
التعريف بأهل البيت :
أهل البيت هم آل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم الذين حرّمت عليهم الصدقة . وهم : آل علي بن أبي طالب ، وآل جعفر ، وآل العباس ، وبنو الحارث بن عبد المطلب وأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم .
أدلة فضل أهل البيت :
قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (الأحزاب : 33) .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « أذكّركم الله في أهل بيتي » (1) .
دخول أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في أهل البيت :
_________
(1) صحيح مسلم حديث برقم (2408) .

قال تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا }{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } (الأحزاب : 32-34) . قال الإمام ابن كثير رحمه الله : (ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم داخلات في قوله { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } .

فإن سياق الكلام معهن ولهذا قال بعد هذا كله : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } ، أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في بيوتكن من الكتاب والسنة . قال قتادة وغير واحد : (واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين النساء) (1) .
الوصية بأهل البيت :
تقدم حديث « أذكركم الله في أهل بيتي » . فأهل السنة يحبونهم ويكرمونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم لأن ذلك من محبة النبي وإكرامه وذلك بشرط أن يكونوا متبعين للسنة مستقيمين على الملة كما كان سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وبنيه . أما من خالف السنة ولم يستقم على الدين فإنه لا يجوز موالاته ، ولو كان من أهل البيت .
_________
(1) تفسير ابن كثير 6 / 411 .

فموقف أهل السنة والجماعة من أهل البيت موقف الاعتدال والإنصاف ، يتولون أهل الدين والاستقامة منهم ويتبرؤون ممن خالف السنة وانحرف عن الدين ، ولو كان من أهل البيت ، فإنّ كونه من أهل البيت ومن قرابة الرسول لا ينفعه شيئًا حتى يستقيم على دين الله . فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم حين أنزل عليه { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } (الشعراء : 214) . فقال : « يا معشر قريش أو كلمة نحوها ، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا ، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا ، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا » (1) . ولحديث : (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) (2) . معنى من بطأ : أي من تأخر .
ويتبرأ أهل السنة والجماعة من الذين يغلون في بعض أهل البيت ويدعون لهم العصمة . ومن الذين ينصبون العداوة لأهل البيت المستقيمين ، ويطعنون فيهم ، ومن طريقة المبتدعين والخرافيين الذين يتوسلون بأهل البيت ويتخذونهم أربابًا من دون الله .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (4771) ، ومسلم برقم (204) .
(2) رواه مسلم برقم (2699) .

فأهل السنة في هذا الباب وغيره على المنهج المعتدل والصراط المستقيم الذي لا إفراط فيه ولا تفريط .

المبحث الرابع
الخلفاء الراشدون
التعريف بالخلفاء الراشدين:
الخلفاء الراشدون هم : أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب (الفاروق) ، وذو النورين عثمان بن عفان ، وأبو السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم .
مكانتهم ووجوب اتباعهم :
الخلفاء الراشدون هم أفضل الصحابة ، وهم الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم باتباعهم ، والتمسك بهديهم . كما ثبت ذلك من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أوصيكم بالسمع والطاعة ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة » (1) .
فضلهم :
أجمع أهل السنة والجماعة على أن التفضيل بين الخلفاء بحسب ترتيبهم في الخلافة : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي . وقد ورد في فضل كل واحد منهم أحاديث كثيرة نورد حديثًا واحدًا منها لكل واحد منهم :
_________
(1) رواه أحمد (4 / 129- 127) ، والترمذي (7 / 438) بسند صحيح .

فمما جاء في فضل أبي بكر رضي الله عنه ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على منبره : « لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا ، لاتخذت أبا بكر خليلا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر » (1) .
ومما جاء في فضل عمر رضي الله عنه ما ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم كان يقول : « قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون ، فإن يكن في أمتي أحد فإن عمر بن الخطاب منهم » (2) . ومعنى محدّثون : مُلْهَمُون .
ومما جاء في فضل عثمان رضي الله عنه ، حديث عائشة الطويل الذي قالت فيه : « دخل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وعندما رآه الرسول جلس وسوى ثيابه فسألته عائشة فقال : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة » (3) .
ومما جاء في فضل علي رضي الله عنه ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عشية خيبر : « لأعطين الراية غدًا رجلا يحب الله ورسولَه ، ويحبه الله ورسولُه يفتَح الله على يديه . . . فقال : ادعوا لي عليًّا . . . فدفع الراية إليه ففتح الله عليه » . (4) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3654) .
(2) صحيح البخاري برقم (3689) . ومسلم برقم (2398) .
(3) صحيح مسلم برقم (2401) .
(4) صحيح البخاري برقم (3702) . ومسلم برقم (2405) .

المبحث الخامس
العشرة المبشرون بالجنة
عرفنا فيما سبق فضل الصحابة وأنهم جميعًا عدول ، وأنهم يتفاضلون في الصحبة . وأفضل الصحابة السابقون الأولون في الإسلام من المهاجرين ثم الأنصار ، ثم أهل بدر ، ثم أهل أحد ، ثم أهل غزوة الأحزاب ثم أهل بيعة الرضوان ، ثم من هاجر من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وكلا وعد الله الحسنى .
وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين ، وأبو السبطين علي بن أبي طالب ، ثم عبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام حواريّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقاص ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن زيد بن نفيل رضي الله عنهم أجمعين .

وقد جاءت في فضلهم أحاديث عامة ومنهم من جاء فيه حديث بخصوصه . ومن الأحاديث العامة في فضلهم ما رواه أحمد وأصحاب السنن عن عبد الرحمن بن الأخنس رضي الله عنه عن سعيد بن زيد قال : أشهد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أني سمعته وهو يقول : « عشرة في الجنة ، النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، وأبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير بن العوام في الجنة ، وسعد بن مالك في الجنة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة) ، ولو شئت لسميت العاشر . قال : فقالوا : من هو ؟ فسكت قال : فقالوا : من هو ؟ فقال : (هو سعيد بن زيد رضي الله عنه) » (1) .
_________
(1) رواه أحمد (1 / 188) ، وأصحاب السنن بسند صحيح .

وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم آخرين غير هؤلاء العشرة بالجنة ، مثل عبد الله بن مسعود ، وبلال بن رباح ، وعكاشة بن محصن ، وجعفر بن أبي طالب ، وغيرهم كثير . وأهل السنة والجماعة ينصون على من ورد النص من المعصوم فيه باسمه فيشهدون له بالجنة لشهادة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم له ، ومن عداهم يرجون لهم الخير لوعد الله لهم جميعًا بالجنة كما قال تعالى بعد ذكر الصحابة وبيان فضل بعضهم على بعض { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } (النساء : 95) . والحسنى هي الجنة . كما أن مذهب أهل السنة في عموم المسلمين عدم القطع لأحد منهم بجنة أو نار ، وإنما يرجون للمحسنين الثواب ويخافون على المسيئين العقاب مع القطع لمن مات على التوحيد بعدم تخليده في النار لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (النساء : 116) .

الفصل الرابع:
الواجب نحو أئمة المسلمين وعامتهم ولزوم جماعتهم
روى مسلم عن أبي رقية تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم » (1) .
فالنصيحة لله : إفراده تعالى بالعبادة وتعظيمه وخوفه ورجاؤه ومحبته وفعل أوامره واجتناب نواهيه .
والنصيحة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ، تصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر به ، واتباع سنته ، والاهتداء بهديه ومحبته ، وألا نعبد الله إلا وفق ما جاء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم .
وأما النصيحة لأئمة المسلمين فهي الدعاء لهم ومحبتهم وطاعتهم في حدود طاعة الله تعالى .
وأما النصيحة لعامة المسلمين فهو أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، وحبُ الخير لهم كما نحب لأنفسنا وبذل الخير لهم ومساعدتهم بقدر ما نستطيع .
الواجب نحو ولاة الأمور :
_________
(1) صحيح مسلم برقم (55) .

لقد دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على وجوب طاعة الإمام وإن جار في حدود طاعة الله تعالى ، ما لم يأمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . كما تجب الصلاة خلفه ، والحج والجهاد معه ، ويطاع في مواضع الاجتهاد ، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد بل عليهم طاعته في ذلك ، وترك رأيهم لرأيه ، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف وتجنب مفسدة الفرقة والاختلاف ، أعظم من أمر المصالح الخاصة . كما تجب النصيحة له بالطرق المشروعة وترك منازعته وعدم الخروج عليه .
قال الإمام الطحاوي رحمه الله : (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ، ولا ندعو عليهم ، ولا ننزع يدًا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة) .
والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة ، فمن الكتاب قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (النساء : 59) .

ومن السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم أنه قال : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني » (1) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » (2) .
والسنة أن تُبذل النصيحة للإمام سرًّا بعيدًا عن الإثارة والتهويل يدل لذلك ما رواه ابن أبي عاصم وغيره ، عن عياض بن غنم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ، وليأخذ بيده فإن سمع منه فذاك ، وإلا أدى الذي عليه » (3) .
هذه النصوص من القرآن والسنة كلها تأمر بطاعة الأئمة وولاة الأمور في غير معصية الله تعالى . ويمكن أن نستخلص منها ما يأتي :
1 - أن السمع والطاعة واجبة في كل الأحوال في غير معصية .
2 - عدم الخروج على ولاة الأمر إذا لم يقبلوا النصيحة .
3 - أن من نصح لولاة الأمر وأنكر عليهم بالطريقة المشروعة فقد برئ من الذنب .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7137) .
(2) صحيح البخاري برقم (7144) .
(3) رواه ابن أبي عاصم في السنة (2 / 507) بسند صحيح .

4 - النهي عن إثارة الفتن وأسباب إثارتها .
5 - عدم الخروج على الولاة ما لم يظهر منهم الكفر البواح أي الظاهر الذي لا يحتمل التأويل .
6 - وجوب لزوم جماعة المسلمين الذين يسيرون على هدى الكتاب والسنة قولا وعملا واعتقادًا وموالاتهم واتباع سبيلهم والحرص على جمع كلمتهم على الحق وعدم مفارقتهم أو الانشقاق عليهم . كما قال تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ }{ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (النساء : 115) . وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ، ومن شذ شذ في النار » (1) . وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية » (2) .
فدلت هذه النصوص على وجوب لزوم الجماعة وعدم منازعة الأمر أهله ، والوعيد الشديد لمن يخالف ذلك . إذ أن الجماعة رحمة والفرقة عذاب .
_________
(1) الترمذي برقم (2167) ، السنة لابن أبي عاصم برقم (80) .
(2) صحيح البخاري برقم (7143) .

الفصل الخامس :
وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة وأدلة وجوبه
وفيه ثلاث مباحث
المبحث الأول : معنى الاعتصام بالكتاب والسنة وأدلة وجوبه .
المبحث الثاني : التحذير من البدع .
المبحث الثالث : ذم التفرق والاختلاف .
المبحث الأول
معنى الاعتصام بالكتاب والسنة وأدلة وجوبه
لقد أمر الله الأمة بالاجتماع واتحاد الكلمة وجمع الصف على أن يكون أساس هذا الاجتماع الاعتصام بالكتاب والسنة ، ونهى عن التفرق وبين خطورته على الأمة في الدارين . ولتحقيق ذلك أمرنا بالتحاكم إلى كتاب الله تعالى في الأصول والفروع ونهينا عن كل سبب يؤدي إلى التفرق .

فالطريق الصحيح إلى النجاة هو التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم فإنهما حصن حصين وحرز متين لمن وفقه الله تعالى . قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (آل عمران : 103) . فقد أمر الله تعالى بالاعتصام بحبل الله ، وحبل الله هو عهد الله أو هو القرآن كما قال المفسرون ، إذ العهد الذي أخذه الله على المسلمين هو الاعتصام بالقرآن والسنة . فقد أمر الله تعالى بالجماعة ونهى عن التفرق والاختلاف . قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (الحشر : 7) . وهذا شامل لأصول الدين وفروعه الظاهرة والباطنة .

وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه ولا تحل مخالفته ، وأن نص الرسول على حكم الشيء كنص الله تعالى لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه ، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } (الأنفال : 20) . فقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ، وزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له . ولهذا قال : { وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ } أي تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء : 59) .

قال الحافظ ابن كثير : (أطيعوا الله ، أي اتبعوا كتابه ، وأطيعوا الرسول أي خذوا سنته ، وأولي الأمر منكم أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله) . وقوله { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } . قال مجاهد : أي إلى كتاب الله وسنة رسوله .

وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } (الشورى : 10) . فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق ، فماذا بعد الحق إلا الضلال . ولهذا قال تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ، أي ردوا الفصل في الخصومات والجهالات إلى الكتاب والسنة ومن لا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنًا بالله ولا اليوم الآخر . وقوله { ذَلِكَ خَيْرٌ } ، أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ، والرجوع إليهما في فصل النزاع خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } ، أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قال السدي وقال مجاهد : (وأحسن جزاء وهو قريب) (1) . وفي كتاب الله آيات كثيرة وردت في وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة والرجوع إليهما في كل الأمور .
_________
(1) تفسير ابن كثير (2 / 304) .

وأما الأدلة من السنة على وجوب التمسك بالكتاب والسنة فمنها ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويسخط لكم ثلاثًا ، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم . ويسخط لكم ثلاثًا ، قيل وقال ، وكثرة السؤال وإضاعة المال » (1) . وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي » (2) . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعد إلا هالك » (3) . وجاء في حديث العرباض بن سارية قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ » (4) .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (1715) .
(2) رواه مالك في الموطأ (2 / 899) .
(3) سنن ابن ماجه (1 / 16) المقدمة . وصحيح ابن ماجه للألباني (1 / 6) .
(4) سنن أبي داود (5 / 13) والترمذي مع تحفة الأحوذي (7 / 438) .

وقد بشر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم المتمسكين بسنته من أمته بأعظم بشارة وأشرف مقصد يطلبه كل مؤمن ويسعى إلى تحقيقه من كان في قلبه أدنى مسكة من إيمان ألا وهو الفوز بدخول الجنة . جاءت هذه البشرى في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى . قالوا ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى » (1) . وأي إباء ورفض للسنة أعظم من مخالفة أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ؟ وذلك بالإحداث والابتداع في الدين .
ومعلوم أن الفرقة الناجية هي التي كانت على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهي الجماعة . قال أبي بن كعب رضي الله عنه : « عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسه النار أبدًا وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة » .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7280) .

المبحث الثاني
التحذير من البدع
تعريف البدعة:
البدعة لغة : هي الاختراع على غير مثال سابق ومن ذلك قول الله تعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي مخترعهما .
وشرعًا : ما خالف الكتاب والسنة ، أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات المحدثة في الدين .
خطر البدع :
إن البدع والمحدثات في الدين لها خطورة عظيمة ، وآثار سيئة على الفرد والمجتمع بل وعلى الدين كله أصوله وفروعه . فالبدع : إحداث في الدين ، وقول على الله بغير علم وشرع في الدين بما لم يأذن به الله ، والبدعة سبب في عدم قبول العمل وتفريق الأمة ، والمبتدع يحمل وزره ووزر من تبعه في بدعته ، كما أن البدعة سبب في الحرمان من الشرب من حوض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم فعن سهل بن سعد الأنصاري ، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « أنا فَرَطُكم على الحوض من مرّ علي شرب ، ومن شرب لا يظمأ أبدًا . ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقوِل إنهم من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول : سحقاَ لمن غيّر بعدي » (1) . والفرط : الذي يسبق إلى الماء .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (6583) ، ورقم (6584) ، وصحيح مسلم برقم (2290) .

وسحقًا : أي بعدًا .
والبدعة تشويه للدين ، وتغيير لمعالمه . والخلاصة أن البدعة خطر عظيم على المسلمين في أمر دينهم ودنياهم .
أسباب البدعة :
للبدع أسباب كثيرة أعظمها البعد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ومنهج السلف الصالح ، الأمر الذي يؤدي إلى الجهل بمصادر التشريع .
ومن أسباب انتشار البدع ، التعلق بالشبهات والاعتماد على العقل المجرد وجلساء السوء ، والاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي يستدل بها المبتدعة على بدعهم ، والتشبه بالكفار ، وتقليد أهل الضلال ونحو ذلك من الأسباب الخطيرة .
خطر البدع :
من تأمل الكتاب والسنة وجد أن البدع في الدين محرمة ومردودة على أصحابها من غير فرق بين بدعة وأخرى ، وإن كانت تتفاوت درجات التحريم بحسب نوعية البدعة .

ومن المعلوم أن النهي عن البدع قد ورد على وجه واحد في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم « إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة » (1) . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » (2) . فدل الحديثان على أن كل محدث في الدين فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة مردودة ، ومعنى ذلك أن البدع في العبادات والاعتقادات محرمة ، ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوع البدعة فمنها ما هو كفر صراح كالطواف بالقبور تقربا إلى أصحابها ، وتقديم الذبائح والنذور لها ، ودعاء أصحابها والاستغاثة بهم ، ومنها ما هو من وسائل الشرك كالبناء على القبور ، والصلاة والدعاء عندها ، ومنها ما هو فسق ومعصية كإقامة الأعياد التي لم ترد في الشرع ، والأذكار المبتدعة والتبتل والصيام قائما في الشمس .
_________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (1 / 435) ، والدارمي في السنن (1 / 78) ، والحاكم في المستدرك (2 / 318) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .
(2) صحيح البخاري برقم (2697) ، وصحيح مسلم برقم (1718) .

المبحث الثالث
ذم التفرق والاختلاف
الأدلة على ذم التفرق :
لقد ذم الله التفرق ونهى عن الطرق والأسباب المؤدية إليه . وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة التي تحذر من التفرق والاختلاف وتبين سوء عاقبته وأنه من أعظم أسباب الخذلان في الدنيا ، والعذاب والخزي وسواد الوجوه في الآخرة . قال تعالى : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (آل عمران : 105-107) . قال ابن عباس : (تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة) .
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (الأنعام : 159) .

فقد دلت الآيات على ذم التفرق وخطورته على الأمة في الدنيا والآخرة ، وأنه سبب هلاك أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ، وسبب كل انحراف وقع في الناس .
وأما السنة فقد جاءت فيها أحاديث كثيرة في ذم التفرق والاختلاف والحث على الجماعة والائتلاف فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن معاوية رضي الله عنه أنه قام فقال : ألا إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قام فينا فقال : « ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة . وإن هذه الأمة ستتفرق على ثلاث وسبعين ملة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة » (1) . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون في النار ، لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، إما في الدين فقط وإما في الدين والدنيا ثم يؤول إلى الدين . وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط . وعلى كل حال فإن الفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم يحذر أمته منه لينجو من الوقوع فيه من شاء الله له السلامة .
_________
(1) رواه أحمد (4 / 152) . وأبو داود (5 / 5) وغيرهما بسند صحيح .

الاختلاف والتفرق سبب هلاك الأمم السابقة :
إذا تأملنا القرآن والسنة وجدنا أن سبب هلاك الأمم السابقة هو التفرق وكثرة الاختلاف لاسيما الاختلاف في الكتاب المنزل عليهم .
قال حذيفة رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه : (أدرك هذه الأمة ، لا تختلف في الكتاب كما اختلفت فيه الأمم قبلهم) ، لما رأى أهل الشام وأهل العراق يختلفون في حروف القرآن الاختلاف الذي نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم . فأفاد ذلك شيئين :
أحدهما : تحريم الاختلاف في مثل هذا .
والثاني : الاعتبار بمن كان قبلنا ، والحذر من مشابهتهم . قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } (البقرة : 176) . وقوله : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } (آل عمران : 19) .

ومن السنة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » (1) . فقد أمرهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في هذا الحديث بالإمساك عما لم يؤمروا به ، معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال ، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية أي بمخالفتهم لما أمرتهم به أنبياؤهم .
هل الاختلاف رحمة :
يدعي بعض الناس أن الاختلاف رحمة اعتمادًا على حديث موضوع : (اختلاف أمتي رحمة) . وهذا القول مردود بالكتاب والسنة والعقل . وقد ذكرنا بعض الآيات والأحاديث الواردة في ذم الاختلاف والتفرق . وفي ذلك كفاية لمن تدبر وتأمل .
بل قد دل القرآن على أن الاختلاف لا يتفق مع الرحمة بل هو ضدها . قال تعالى : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }{ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } (هود : 118 ، 119) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7288) ، وصحيح مسلم برقم (1337) .

والحديث الذي استدل به أصحاب هذه الدعوى باطل ولا يصح بحال ، ولا يوجد في شيء من كتب السنة . وهذا كافِ في بطلان هذه الدعوى ، يضاف إلى ذلك مخالفته للمعقول ، فإنه لا يتصورَ عاقل أن الاختلاف رحمة ، بعدما عرفنا المفاسد الخطيرة الناتجة عنه من التشاحن والتباغض والتهاجر بل وربما القتال والحروب التي كثيرًا ما ثارت بين الناس بسبب الاختلاف ، حتى في بعض مسائل الفروع .
طريق الخلاص من الفرقة والاختلاف :
ومن المعلوم أن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هي الجماعة . والجماعة هم الذين يسيرون وفق منهج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم وأصحابه لا يعدلون عن ذلك ولا يحيدون عنه يمينًا أو شمالًا .
قال الشاطبي رحمه الله في الاعتصام : (إن الجماعة ما كان عليه النبي وأصحابه والتابعون لهم بإحسان) . فطريق الخلاص هو اتباع منهج أهل السنة والجماعة قولًا وعملًا واعتقادًا ، وعدم مخالفتهم أو الشذوذ عنهم .
قال تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (النساء : 115) .

وقال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (الأنعام : 153) .
وفي السنة ما رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال : « لا تجتمع أمتي على ضلالة- أو قال : أمة محمد على ضلالة- ويد الله على الجماعة » (1) .
_________
(1) رواه الترمذي (4 / 466) ، وغيره بسند صحيح .

وبهذا نختم القول بأن طريق الخلاص وعنوان السعادة التمسك بكتاب الله تعالى ، ذلك الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وكذلك التمسك بالسنة المطهرة الثابتة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فإنهما أي الكتاب والسنة هما المصدران الوحيدان لعقيدة الإسلام وشريعته . فأي منهج جانب هذا الطريق فإنه منهج خاسر ، فالتمسك بالسنة هو سبيل المؤمنين ، وطريق الوصول إلى مرضاة رب العالمين ، والحصن الحصين ، وهذا هو المنهج الذي يحفظ الله به الأمة من بدع المبتدعين وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين وتحريف الغالين . وهو الطريق الذيَ صلحت به أحوال الأمة في صدر الإسلام ، ولا فلاح لنا ولا نجاح إلا بالرجوع إليه . يقول إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله : (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) ، وما صلح به أولها هو العمل بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم ومما ينبغي على المسلم في هذا الجانب أن يكون العمل بالكتاب والسنة مقيدًا بفهم السلف الصالح ومنهجهم لقول الله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ

الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (النساء 115) .
فاتباع سبيل المؤمنين وهم الصحابة وأتباعهم من الأئمة المهديين بإحسان هو سبيل النجاة نسأله تعالى أن يوفق الأمة الإسلامية للتمسك بكتاب ربها وسنة نبيها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم واتباع سبيل المؤمنين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .